بين البشائر والغفران والإعراض والحرمان

شايع بن محمد الغبيشي
1447/06/27 - 2025/12/18 20:13PM

بين البشائر والغفران والإعراض والحرمان

الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ}

عباد الله نقف اليوم مع حدثٍ عظيم يتكرر كل أسبوع في يومي الاثنين والخميس يتقلب فيه المسلم بين البشائر والغفران والإعراض والحرمان، ترى لمن تزف البشائر والرحمات والغفران؟ ومن الذي يعتريه الخوف والحسرات وينال الإعراض والحرمان؟ والعجب كل العجب أن البعض منا يفرط في تلك البشائر والرحمات والغفران، ويبقى أسير الإعراض الحرمان! هيا بنا عباد الله نستكشف ذلك من خلال هذا الحديث العظيم  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" رواه مسلم وفي رواية له: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ" وفي رواية: "إِلَّا الْمُهْتَجِرَيْنِ" وفي هذا الحديث عباد الله دروس وهدايات منها:

أولاً: بشائر ورحمات لأهل الإيمان والطاعات، يتقلب العباد في ألطاف الله جل وعلا، هو سبحانه يفتح لهم أبواب جنته يومين في كل أسبوع ليطَمِّعَهم فيها ويحثهم على العمل الذي يدخلهم إياها، وكأنما ينادي المنادي فتحت أبواب الجنة فدونك دونك أيها الرغب فيها.

ومن مظاهر لطف الله بعباد والبشائر التي تساق إليهم أن جل وعلا يطلع على أعمال عباده فما أسعد الطائعين وما أشد وأعظم فرحهم! يا أيها الطائع يا أيها الصابر يا أيها المجاهد لنفسك بشراك بشراك فربك يطلع على أعمالك يومين في كل أسبوع ويستعرضها فأي فوز كفوزك، سيفيض عليك سبحانه وتعالى من جميل إحسانه ما لا يخطر لك على بال، ألم يقل جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ([1]) ألم يقل سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ([2])

ومن مظاهر لطف الله بعباد والبشائر التي تساق إليهم أنه سبحانه يغفر لأهل التوحيد الذين لا يشركون به شيئاً، ويسلمون من الأعمال التي توجب الكفر. فما أرحمه وألطفه بنا، وما أحوجنا إلى التعرض لرحمته وعظيم ألطافه.

ثانياً: حسرات وحرمان من الغفران وإعراض من الرحيم الرحمن لكن لمن ذلك؟ للذي أشرك مع الله غيره قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ([3])

عباد الله حسرات أخرى وحرمان من الغفران وإعراض من الرحيم الرحمن ولكن لمن ذلك؟ لأهل القطيعة والهجران فما أخطر الشحناء والقطيعة والتهاجر قال القرطبي رحمه الله: " ومقصود هذا الحديث التحذير من الإصرار على بغض المسلم ومقاطعته، وتحريم استدامة هجرته ومشاحنته، والأمر بمواصلته، ومكارمته" وقال ابن عبد البر رحمه الله: "الْمُهَاجَرَةَ وَالْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ وَالسَّيِّئَاتِ الْجِسَامِ ، … أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ غُفْرَانَهَا وَخَصَّهَا بِذَلِكَ ".

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله من هدايات ودروس الحديث:

ثالثاً: لماذا يعرض الله عن المتشاحنين كل أثنين وخميس؟ وما علاقة ذلك بفتح أبواب الجنة؟ "لأن مِن أبرَزِ صِفاتِ أهلِ الجَنَّةِ صَفاءُ قُلوبِهم، وخُلوُّها مِنَ الشَّحناءِ والبَغضاءِ؛ فاللهُ تعالَى يُزيلُ مِن صُدورِ أهْلِ الجنَّةِ الأحْقادَ والبَغضاءَ والكَراهِيةَ والحسَدَ الَّتي كانت بيْنهم في الدُّنيا؛ حتَّى يَكونوا في الجنَّةِ إخْوانًا مُتَحابِّينَ، ومع أنَّ مَنازِلَهم فيها مُتفاوِتةٌ، فإنَّه لا يَحسُدُ أحدٌ مِنهم أحَدًا على ارتفاعِ مَنزِلتِه عَليه. ولهذا أعرض عن أهل الشحناء والقطيعة. تأمل كلمة "أَنْظِرُوا" أي: أَمْهِلُوا هَذَيْنِ الرَّجُلينِ وَأخِّروا مَغفرَتَهما مِن ذُنوبِهما حتَّى يَتَصالَحَا، وَيَزولَ عَنْهُما الشَّحناءُ، فَلا يُفيدُ التَّصالحُ لِلسُّمعةِ وَالرِّياءِ، والظَّاهرُ أنَّ مَغفِرةَ كلِّ واحدٍ مُتوقِّفَةٌ على صَفائِه، وزَوالِ عَداوتِه، سَواءٌ صفَا صاحبُه أمْ لا، فاللهُ عزَّ وجلَّ يُريدُ مِن عِبادِه أنْ تكونَ قُلوبُهم مُجتمِعةً غيرَ مُتفرِّقةٍ، مُتحابَّةً غيرَ مُتباغِضةٍ" ([4])

رابعاً: ما أقبح الخصومة والقطيعة والشحناء بين المسلم وأخيه المسلم! وما أشنع عاقبتها! فالله جل وعلا يعرض عن الاطلاع على أعمالهما ويحجب عنهما مغفرته، ويقول لملائكة ثلاثاً: "أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" فما أعظمه من حرمان! فمتى نقول للقطيعة والشحناء وداعاً لنفوز بمغفرة الله وجميل ألطافه وسوابغ مغفرته، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يجب على الإنسان أن يبادر بإزالة الشحناء والعداوة والبغضاء بينهم وبين إخوانه حتى وإن رأى في نفسه غضاضة وثقلا في طلب إزالة الشحناء فليصبر وليحتسب لأن العاقبة في ذلك حميدة".

خامساً: عبد الله عليك أن تبادر بإنها القطيعة والذهاب إلى الذي بينك وبينه قطيعة وإلقاء السلام عليه فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ " متفق عليه في رواية :

"فَلْيَلْقَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإنْ رَدَّ عليه السَّلامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا في الأجْرِ، وَإنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بالإثْمِ، وَخَرَجَ المُسَلِّمُ مِنَ الهِجْرَةِ" رواه أبو داود وحسنه الألباني.

سادساً: على المسلم أن يحرص على عمل الصالحات ويبتعد عن المعاصي والسيئات والموبقات، ويتذكر أن أعماله سوف تعرض على ربه كل أثنين وخميس، فما يحب أن يعرض على ربه ويطلع عليه فليسارع إليه ومنا يكره يستحي ويخشى أن يعرض على ربه ويطلع عليه فليبتعد عنه ويتوب منه.

 

 



([1]) [النحل: 30]
([2]) [يونس: 26]
([3]) [الزمر: 65، 66]
([4]) [ الدرر السنية بتصرف]

المرفقات

1766319538_بين البشائر والغفران والإعراض والحرمان.docx

1766319544_بين البشائر والغفران والإعراض والحرمان.pdf

المشاهدات 520 | التعليقات 0