نُزولُ الْمَطرِ وَاستجَابةُ الدُّعاءِ
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ وَنستغفرُهُ ونعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنفسِنَا وَسَيِّئاتِ أَعمالنَا, مَنْ يَهدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضللْ فلاَ هَادِيَ لهُ وأَشهدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسُولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وَمَن سَارَ عَلَى نَهجِهِ وَاقتَفَى أثَرهُ إِلَى يَومِ الدِّينِ وَسلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا, أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلمُونَ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 2، 3].
أَيُّهَا المُسلمُونَ، إِنَّ مِنْ أَعظمِ دَلَالاتِ رُبُوبيَّةِ اللهِ وَأُلوهِيَّتِهِ هُوَ مَا نَراهُ مِنِ استِجَابةِ وَسَماعِ اللهِ لِدُعائنَا وَمُناجاتنَا, تَرَى الْمَكروبَ فِي هَمٍّ وَغَمٍّ والدُّنيَا الرَّحيبَةُ قَدْ ضَاقتْ عَلَيهِ بِأَرجائهَا, فَمَنْ لَهُ غَيرُ اللهِ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62].
وهَذَا الْمَريضُ حَارتْ فِيهِ الأَفكارُ وَأَعيَا الأَطبَّاءَ وَالنُّظَّارَ وَأَصبحَ أَهلهُ يَنتظِرُونَ فِيهِ الأَقدارَ, فَإِذَا بِالْمَريضِ العَانِي يَرفعُ يَديهِ فَيدعُو بِدعوَةٍ تَنفتِحُ لَهَا أَبوابُ السَّماءِ: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 41 و 42], تَرَى النَّاسَ عِندَ تَأَخُّرِ الغَيثِ وَجَدبِ الأَرضِ قَدْ سَاءتْ بِهمُ الظُّنونُ فَلَمَّا لَجَؤوا إِلَى اللهِ أَنزلَ لَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَاركًا يَرحمُ بِهِ عِبادَهُ, فَإِذَا الْمَاءُ وَالخُضرةُ وَالنَّماءُ, وَإِذَا السَّيلُ يَملأُ النَّواحِيَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].
إنَّ هَذِهِ الدَّلَالةَ العَظيمَةَ كَرَّرَ اللهُ تَقريرهَا فِي كِتَابهِ, وَبَيَّنَ أَنَّ غَيرهُ لَا يَسمعُ دُعاءَ الدَّاعِينَ, قَالَ -جَلَّ وعَلَا- ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: 13], ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ [يونس: 18],
وَقَالَ تَعالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبأ: 22]، هَذَا هُوَ وَصفُ هَذِهِ الآلِهةِ البَاطلةِ لَيسَ لَهَا نَفعٌ لِأَنفسهَا فَكَيفَ تَنفعُ غَيرهَا, بَينمَا اللهُ الْمَلكُ الحَقُّ الْمُبينُ أَخبرَ عَنْ نَفسهِ أَنَّهُ قَريبٌ يُجيبُ دَعوةَ الدَّاعِي إِذَا دَعاهُ, وَأمرَ الخَلقَ أَنْ يَدعُوهُ فَقالَ: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، وَقالَ أيْضًا: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
وَكَمَا أَنَّ إِجابَةَ الدُّعاءِ مِنْ أَظهرِ عَلامَاتِ الأُلُوهيَّةِ؛ فَإنَّ مِنْ أَظهرِ عَلامَاتِ العُبُوديَّةِ هُوَ دُعاءُ العَبدِ لِربِّهِ وَسُؤالُهُ دُونَ أَحدٍ مِنْ خَلقهِ, فَدعَاءُ اللهِ -جَلَّ وعَلَا- فِيهِ إِظهَارُ الذُّلِّ وَالْمسكنَةِ وَالحَاجةِ وَالافتِقَارُ, وَإِقرارٌ بِقُدرةِ الْمَسؤُولِ عَلَى دَفعِ هَذَا الضَّررِ وَنَيلِ الْمَطلُوبِ وَجَلبِ الْمَنافعِ, وَدرءِ الْمَضارِّ.
فَإنَّ الدُّعاءَ يُنبِئُ عَنْ حَقيقَةِ العُبوديَّةِ، وَقُوَّةِ الافتِقارِ، وَيُوجبُ لِلعبدِ خُضوعَهُ وَخُشوعَهُ لِربِّهِ وَشِدَّةَ الانكِسارِ، فَكمْ مِن حَاجةٍ دِينيَّةٍ، أَوْ دُنيويَّةٍ أَلجأتكَ إِلَى كَثرةِ التَّضَرُّعِ وَاللّجأِ إِلَى اللهِ، وَالاضطِرَارِ إِلَيهِ، وَكَمْ مِنْ دَعوةٍ رَفعَ اللهُ بِهَا الْمَكارهَ وَأَنواعَ الْمَضارِّ ؟! وَجلَبَ بِهَا الخَيراتِ وَالبَركاتِ وَالْمَسارَّ! وَكمْ تَعرَّضَ العَبدُ لِنفحَاتِ الكَريمِ فِي سَاعاتِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ، فَأَصابتْهُ نَفحةٌ مِنهَا فِي سَاعةِ إِجابَةٍ، فَسعِدَ بِهَا، وَأَفلحَ وَالتَحقَ بِالأَبرارِ! وَكَمْ ضَرَعَ تَائبٌ فَتابَ عَلَيهِ وَغفرَ لَهُ الخَطايَا وَالأَوزارَ! وَكَمْ دَعاهُ مُضطرٌّ فَكشفَ عَنهُ السُّوءَ وَزالَ عَنهُ الاضْطرارُ! وَكَمْ لَجَأَ إِلَيهِ مُستغِيثٌ فَأَغاثَهُ بِخيرهِ الْمِدرارِ!
فَمَنْ وُفِّقَ لِكثرةِ الدُّعاءِ فَلْيبشرْ بِقربِ الإِجابَةِ، وَمَنْ أَنزلَ حَوائجَهُ كُلَّهَا بِربِّهِ فَلْيطمئِنَّ بِحُصولِهَا مِنْ فَضلهِ وَثَوابِهِ؛ فَحقيقٌ بِكَ أَيُّهَا العَبدُ أَنْ تُلحَّ بِالدُّعاءِ لَيلًا وَنَهارًا، وَأَنْ تَلجأَ إِلَيهِ سِرًّا وَجِهارًا، وَأَنْ تَعلمَ أَنَّهُ لَا غِنًى لَكَ عَنهُ طَرفةَ عَينٍ فِي دِينكَ وَدُنياكَ، فَإِنَّهُ رَبُّكَ وَإِلهكَ وَنَصيرُكَ وَمَولاكَ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186].
لَكنَّ بَعضَ النَّاسِ عِندَمَا يَدعُو رَبَّهُ أَوْ يَستغيثُهُ يَقعُ فِي قَلبِهِ أَنَّ اللهَ لَنْ يَستجِيبَ لَهُ، وَأَنَّ دَعوتَهُ مَردُودةٌ لِسببٍ مَا, وَهُوَ نقصٌ فِي الرَّجاءِ وَسُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ, ولِهَذَا رَوَى مُسلمٌ فِي «صَحِيحِهِ»عَنْ أَبِي هُريرةَ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قَالَ:
«إِذَا دَعَا أَحدُكُمْ فَلَا يَقلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئتَ, وَلَكنْ لِيعزِمِ الْمَسألَةَ وَلْيعظِمِ الرَّغبَةَ فَإنَّ اللهَ لَا يَتعَاظمُهُ شَيءٌ»([1]). نَعمْ, لِيعظمِ الرَّغبةَ وَالرَّجاءَ؛ فَإنَّ اللهَ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ بِهِ, كَمَا فِي «الصَّحِيحَينِ».
وَكيفَ يَقنطُ الإِنسانُ مِنْ رَحمةِ اللهِ, وَقدِ استَجَابَ اللهُ لِدُعاءِ الكَافرِينَ لَمَّا كَانُوا فِي لُجَجِ البِحارِ, وَالرِّيحِ العَاصفِ, وَالْمَوجُ يَنهالُ عَلَيهِم مِنْ كُلِّ مَكانٍ, فَلَمَّا دَعَوا اللهَ مُخلصِينَ لَهُ الدِّينَ أَنجَاهُمْ, مَعَ أَنَّهُ يَعلمُ أنهُمْ إِذَا نَجُوا إِلَى البَرِّ أَنَّهُمْ يُشرِكونَ؟! فَسبحَانَ مَنْ سَبقتْ رَحمتُهُ غَضبَهُ! أَفَلا يُحسنُ الظَّنَّ مَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيهِ بِنعمَةِ التَّوحِيدِ، وَلَمْ يَنحنِ ظَهرُهُ إِلَّا للهِ الوَاحدِ الْمَجيدِ.
أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ [غافر: 14و15]
بَاركَ اللهُ لِي وَلكُمْ فِي القُرآنِ العَظيمِ, وَنَفعَنِي وَإيَّاكمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكرِ الحَكيمِ, أَقُولُ مَا سَمعتُمْ, وَأَستغفِرُ اللهَ العَظيمَ لِي ولكُمْ ولسَائرِ المُسلمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ وَخَطيئةٍ, فَاستَغفِروهُ وَتوبُوا إِلَيهِ, إِنَّهُ هُوَ الغفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إِحسَانِهِ, والشُّكرُ عَلَى تَوفيقِهِ وامْتِنانِهِ, وأَشْهدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تَعظيمًا لِشانِهِ, وأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, الدَّاعِي إِلَى جَنَّتِهِ وَرِضوانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعلَى آلِهِ وأَصحابهِ وأَعوانِهِ, أمَّا بَعدُ:
إِخوَتِي فِي اللهِ, تَتابَعَتْ نِعمُ اللهِ عَلينَا فِي الأُسُبوعِ الْمَاضِي بِنُزولِ الغَيثِ العَميمِ، الَّذِي عَمَّ أَرجَاءَ البِلَادِ بَعدَ أَنْ اسْتَسقَاهُ العِبَادُ طَامعِينَ رَاجِينَ فِي اسْتجَابةِ رَبِّهِمْ لِدُعائِهِمْ, وَبِالغَيثِ الْمُباركِ تَبْتَهِجُ النُّفُوسُ، وَلَا تَحِيدُ الْأَبْصَارُ عَنْ مَوَاقِعِ قَطْرِهِ، وَتَمْتَلِئُ الصُّدُورُ بِرِيحِ طَلِّهِ؛ فَيَبْهَجُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَيَفْرَحُ بِهِ أَهْلُ الزَّرْعِ وَالْضَرْعِ كَمَا يَفْرَحُ بِهِ مَنْ لَا زَرْعَ لَهُ وَلَا ضَرْعَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى الْفَرَحِ بِرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْغَيْثُ الْمُبَارَكُ حَيَاةَ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَحِينَ نَرَى أَثَرَ الْغَيْثِ الْمُبَارَكِ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا نَجِدُهُ يُحِيلُ غَبْرَاءَهَا إِلَى خَضْرَاءَ، وَيَبْعَثُ الْحَيَاةَ فِيهَا، فَتَدِبُّ الْحَيَاةُ فِيهَا بَعْدَ هُمُودِهَا: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5] حِينَ نَرَى ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَيَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ يَعْمَلَانِ فِي حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَرَبِيعِهَا أَشَدَّ مِمَّا يَعْمَلُهُ الْغَيْثُ الْمُبَارَكُ فِي الْأَرْضِ, وَعَلَى قَدْرِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَاءِ الْإِيمَانِ يَحْيَا بِأَجْزَاءِ الْإِيمَانِ وَمُفْرَدَاتِهِ، كَمَا يَحْيَا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُعْرِضُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ بِذَلِكَ، سَوَاء كَانَ إِعْرَاضُهُ لِجُحُودٍ أَوْ شَكٍّ أَوْ مَرَضٍ حَجَبَ قَلْبَهُ عَنِ الْانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْإِيمَانِ، وَآيِ الْقُرْآنِ كَمَا لَا تَنْتَفِعُ السِّبَاخُ مِنَ الْأَرْضِ بِالْغَيْثِ الْمُبَارَك.
جَاءَ فِي «الصَّحِيحَينِ» عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ؛ فَشَرِبُوا وَسَقوْا وَزَرَعُوا, وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا, وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»([2]).
وَعَلَى الْمُؤْمِنِ إِذَا رَأَى آثَارَ الْغَيْثِ الْمُبَارَكِ، وَكَيْفَ نَمَا بِهِ الزَّرْعُ، وَاخْضَرَّتْ بِهِ الْأَرْضُ؛ فَاكْتَسَتْ بِهِ زِينَةً وَجَمَالًا، وَفَاحَتْ أَعْشَابُهَا عَبَقًا وَرَيْحَاناً؟ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَثَرَ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ وَصَلَاحِهَا أَعْظَمُ مِنْ أَثَرِ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ.
وَكَذَا أَثَرُ الْقُرْآنِ وَأَثَرُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَثَرِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ؛ وَلِذَا كَانَ الْقُرْآنُ رَبِيعَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَوَاللهِ الَّذِي لَا يُحْلَفُ بِغَيْرِهِ إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَصْلُحُ وَتَزْدَانُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّفَكُّرِ وَالذِّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ مِنْ صَلَاحِ الْأَرْضِ وَزِينَتِهَا بِالْمَاءِ وَالْخُضْرَةِ, فَمَنْ أَرَادَ لِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْمَلَ مِنَ الْأَرْضِ فِي مَوْسِمِ رَبِيعٍ تَتَابَعَتْ أَمْطَارُهُ، وَاهْتَزَّتْ أَرْضُهُ، وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنَمِّيَ إِيمَانَهُ، وَيَلْزَمَ قُرْآنَهُ، وَلَا يَتْرُكَ وِرْدَهُ مِنْهُ أَبَدًا، وَيُكْثِرَ نَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ، وَيَجْتَنِبَ مُفْسِدَاتِ الْقُلُوبِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى, فَقَدْ أَمَركمْ رَبُّكُمْ فَقالَ -جَلَّ وعَلَا-:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصحبِهِ أَجْمعينَ, وَارضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخلفَاءِ الرَّاشدِينَ وَالأَئمَّةِ المَهدِيينَ أَبِي َبكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعَليٍّ, وعَنِ الصَّحَابةِ أَجمعِينَ, وَعنَّا مَعهمْ بِعفوكِ وكَرمكَ يَا أَكرمَ الأَكرمينَ.
اللَّهُمَّ أَعزَّ الإِسلَامَ وَالمُسلمِينَ, وَانْصُرْ عِبادَكَ المُوَحِّدينَ الذِينَ يُجاهدُونَ فِي سَبيلكَ فِي كُلِّ مكانٍ, اللَّهُمَّ انصُرهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدوهمْ, اللَّهُمَّ عَليكَ باليهُودِ المُعتَدينَ والنَّصَارَى المُحاربينَ, اللَّهُمَّ عَليكَ بِهمْ فَإنهُمْ لَا يُعجزونَكَ, اللَّهُمَّ أَحصِهِمْ عَددًا, اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوطاننَا, وأَصلحْ أُمَّتنَا وَوُلاةَ أُمورنَا, اللَّهُمَّ وَفِّقهُمْ لمَا يُرضيكَ, وَجَنِّبهمْ مَعاصيكَ, اللَّهُمَّ تُبْ عَلَى التَّائبينَ وَاهدِ ضَالَّ المُسلمِينَ, اللَّهُمَّ رُدَّهُمْ إليكَ رَدًّا جَمِيلًا, اللَّهُمَّ ارفَعْ مَا نَزلَ مِنَ الفِتنِ, اللَّهُمَّ اغفِرْ لَنَا ولوَالِدِينَا, عِبادَ اللهِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90], فَاذكُروا اللهَ العَلِيَّ العَظيمَ يذكرْكُمْ وَاشكُرُوهُ عَلَى نِعمِهِ يزدْكُمْ, ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
([1]) أخرجه البخاري (6339) , ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([2]) أخرجه البخاري (79) , ومسلم (2282) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
المرفقات
1765978918_نزول المطر واستجابة الدعاء.docx