الصلاة نور
عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ الذي كانَ بعبادهِ خبيراً بصيراً، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:1].. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].. والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هادياً ومبشِّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً منيراً، صـلوات اللهُ وسلامهُ عليـه، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبْرارِ الأخيار، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وسلَّم تسليماً كثيراً..
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا للهِ تبارك وتعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تربحوا.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]..
معاشر المؤمنين الكرام: جاء في حديثٍ صحيح: قال عليه الصلاة والسلام: "كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطائينَ التوابونَ"، وجاء في روايةٍ حسنة: "كل ابن آدم خطاء".. وهنا يتبادر للذهن سؤال: لماذا يقعُ الانسانُ في الخطأ؟..
والجواب: لأنه غالباً حين يبحثُ عن حلٍّ لمشكلةٍ ما، فلا يوفق للطريق الصحيح للحلّ فيخطئُ.. يريد أن يعالج مشكلةٍ ما فيقعُ في أخرى..
يحتاجُ أحدهم إلى المال، فيلجأُ إلى الحرام، يغشُّ أو يحتالُ أو يسرق.. يريد قضاءَ شهوته، فتزينُ له النفسُ الأمارةُ بالسوء طريقَ الحرام.. يريدُ نسيانَ همّه، وجلبَ الأُنسِ إلى نفسه، فيتعاطى ما يزيده همًا، كالمخدرات والمسكرات... وهكذا فالوقوع في الخطأ, غالباً ما يكون حلاً لمشكلةٍ ما, لكن بطريقةٍ غير صحيحة.. كما يقال في المثل العامي: جاء ليكحلها فأعماها..
والسؤال الجوهري هنا.. كيف أحلُّ أيَّ مشكلةٍ تصادفني دون أن أقع فيما هو أكبر منها؟؟.. والجواب بكل يقين: بإصلاح العلاقة مع الله.. نعم، يا عباد الله: فالله هو الموفق للصواب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [هود:88]..
والله هو العاصم من الزلل، وهو الذي يصرف عنك البلاء والفتن وكل سوء قد يضرك: {كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].. وقال تعالى على لسان زوجة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53].. بل وقال الله تعالى لنبيه الكريم: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]..
والله تبارك وتعالى هو الذي يهديك إلى الصواب: قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [القصص:56].. وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]..
والله هو الذي يغفر الذنوب جميعاً، {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ}.. [آل عمران:135]..
والله جلّ جلاله هو الذي يعلمك ما ينفعك: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [البقرة:282]..
والله عزَّ وجلَّ هو الذي يُنقذك من الضلالة ومن مسالك الردى كلها: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة:257]..
والله تبارك وتعالى هو الذي يثبتك على الحقّ والصواب: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]..
والقلوب كلها بيد الله, يصرفها كيف يشاء: في الحديث الصحيح، قال ﷺ: "ما مِن قلبٍ من قلوبِ العبادِ إلَّا وهو بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ، إن شاءَ أن يُقيمَهُ أقامَهُ، وإن شاء أن يُزيغَهُ أزاغَهُ"..
فإذا ضعفت علاقة العبد بالله، فسينسى الله.. {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وإذا قطعَ صِلتةُ بالله، فَقَدَ الاتجاهَ وتاه.. {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [الصف:5]..
وكلما ابتعد القلب عن الله، اقتربت منه الشياطين، وتكاثرت عليه الأهواء والهموم.. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]..
وهنا يأتي السؤال المصيري: كيف نُصلح علاقتنا بالله؟.. والجواب: نُصلح علاقتنا بالله، بإصلاح الصلاة.. فالصلاةُ صلةٌ واتصالٌ بالله، الصلاةُ وقوفٌ ومناجاةٌ بين يدي الله.. في صحيح البخاري، قال ﷺ: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يُناجي ربه»..
أيها المسلمون الكرام: أرجو أن تنتبهوا لما سيأتي.. جاء في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام، "الصلاة نور".. تأمل يا رعاك الله، فمنذ أن تخرج من بيتك، قاصداً بيت الله للصلاة، فإنك تبشر بالنور، ففي الحديث الصحيح، يقول ﷺ: "بشِّر المشائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة".. ثم تدخل بيت الله، وإن شئت فسمه بيت النور؛ قال جل وعلا: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:35].. فإذا قرأت الفاتحة، فإنها نور.. كما جاء في الصحيحين: أن ملكاً، نزل إلى الأرض فسلَّم على النبي ﷺ وقال: أبشِر بنورين أُوتيتهما لم يُؤتهما نبيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منها إلا أُعطيته".. فإذا قرأت شيئًا من القرآن فالقرآن كله نور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]..
الصلاة نور، تنير للمسلم طريق الفوز والنجاة، وتهديه إلى الحق والصواب، وتدله على الخير والصلاح، وتنهاهُ عن الخطأ والزلل والمعاصي؛ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].. فإذا لم ينتهي المصلي عن المعاصي، فالخلل في أداء الصلاة، وليس في وعد الله، فالله لا يخلفُ الميعاد.. كيف والله جلَّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].. أما من ترك الصلاة فما أبعده عن طريق النجاة، تأمل: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]..
الصلاةُ علاجٌ للخطوب، وتفريجٌ للضيق والكروب.. تأملوا: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:97]..
الصلاة حلٌّ لكل المشاكل، صغيرها وكبيرها.. إذا خسف القمر فزعنا إلى صلاة الكسوف، وإذا أجدبت الأرض خرجنا لصلاة الاستسقاء، وإذا دهانا خوف شديد، لجأنا لصلاة الخوف، إذا مات الميت ودعناه بالصلاة.. فلئن كانت المشاكلُ الكبرى تَحلُّها الصلاة، فكيف لا تَحلُّ مشاكلنا العادية؟.. ولذا كان المصطفي ﷺ: إذا حزبهُ أمرٌ فزِعَ إلى الصّلاة..
فيا أيها المبارك: قف وقفةً صدق مع نفسك: حاسبها على الصلاة، وكن صريحاً مع نفسك، ضع صلاتك في الميزان، وانظر إلى قيمة الصلاة عندك، وإلى أي درجةٍ تهتم بصلاتك..
وهل بذلت جهداً خاصاً من أجل اتقانها وتحسين أدائها؟..
ما هو التقييم الذي تعطيه لنفسك في اهتمامك بالصلاة.. 20% -30% -40% -50% -
فاستمع لما يقوله النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "إنَّ العبدَ لينصرفُ من صلاتِه ولم يُكْتَبْ له منها إلا نصفَها، إلا ثُلُثَها، إلا ربعها، حتى قال: إلا عُشْرَها".. فإن كنت مهتما بالصلاة فحدد موقعك من هذا الحديث؟.. فمكانتك عند الله، كمكانة الصلاة عندك، سواء بسواء.. فإن عظَّمت الصلاةَ عَظُمَ قدرك عند الله، وإن استخففت بها.. خفَّ قدرك وميزانك عند الله، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج:32]..
فلا بد إذن من وقفة جادةٍ لتحسين صلاتنا.. لا بد من الاهتمام بالصلاة، لأن الصلاة بوابة الدخول على الله، {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق:19].. وفي الحديث الصحيح، يقول ﷺ: (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)..
لا بدَّ من الاهتمام بالصلاة يا عباد الله، لأنها أغلى ما لدى المسلم من العبادات والطاعات، في الحديث الصحيح، قال ﷺ: "استقيمُوا ولنْ تُحصوا، واعلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكمُ الصلاةُ"..
لا بدَّ من الاهتمام بالصلاة، ففي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: "أولُ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، وإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه"..
لا بد من وقفةٍ جادة، لتحسين الصلاة والاهتمام بها.. لأنَّ أكثر الناس يشكون ضيق الصدر، وقلة التوفيق، وتسلط الهموم، وضعف النفس أمام الشهوات.. ولا صلاح إلا بإصلاح الصلاة.. ولو تفقد أحدهم صلاتهُ لهاله الأمر.. وكم نرى في المسجد أحوالاً يندى لها الجبين.. فالهندامُ غير مرتب، والملابسُ غير لائقة.. والرائحةُ مزعجة، والأيدي تتحرك بلا وعي.. والعيون تتقلب يميناً وشمالاً، وغيرها من الأحوال التي تنبئك عن أن القلب في وادٍ والجسد في وادٍ آخر.. في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: "يا فُلَانُ، ألَا تُحْسِنُ صَلَاتَكَ؟.. ألَا يَنْظُرُ المُصَلِّي إذَا صَلَّى كيفَ يُصَلِّي؟.. فإنَّما يُصَلِّي لِنَفْسِهِ".. وقال أحد الحكماء: كيف تطلب ثمرة للنباتٍ لم تُحسن زرعه؟..
وعلى هذا فمن أراد صلاح أحواله فليصح صلاته.. وهذا ما سنتدارسه في الخطبة الثانية بإذن الله.. أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، بسم الله الرحمن الرحيم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ يَخَـٰفُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأبْصَـٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36]..
أقول ما تسمعون ...
.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.. وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [الزمر:18]..
معاشر المؤمنين الكرام: إصلاحُ الصلاة وتحسينها, يبدأُ من تعظيمها في القلب، ثمّ الاهتمامُ بها، وإحسانُ الوضوء لها، والتبكيرُ إليها، والخشوعُ فيها.. وفهمُ وتدبرُ الآياتِ والأذكارِ التي تُقرأ فيها.. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} [المؤمنون:1].. وفي الحديث الصحيح: "ما مِن امرئٍ مُسْلمٍ تحضُرهُ صلاةٌ مكتوبةٌ فيُحسَنَ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها، إلَّا كانَتْ كفارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم يُؤتِ كبيرةً وذلك الدهرَ كُلَّه".. وفي صحيح مُسلمٍ: "ما من أحدٍ يتوضَّأُ فيُحسنُ الوضوءَ، ويُصلِّي رَكعتينِ، يُقبِلُ بقلبِه ووجهِه عليهما، إلَّا وجبتْ له الجَنَّةُ".. فالخشوع هو لُبّ الصلاة وروحها.. ولا فلاح ولا صلاح بلا خشوع: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} [المؤمنون:1].. فبدون الخشوع تفقدُ الصلاةَ أهمَّ وأعظمَ ثمراتها وفوائدها.. بل وتصبحُ ثقيلةٌ شاقةٌ، قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].. ولمن يسأل كيف اخشعُ في صلاتي، فهناك أسبابٌ كثيرة ينبغي على المسلم أن يجتهد في تحقيقها، أهمها: استحضارُ عظمةِ الصلاة، وعلو قدرها عند الله جلَّ في علاه..
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]..
السبب الثاني: ان يتجمَّلَ لها بأحسن ما يستطيع، فيلبسُ أحسنَ ثيابه، ويتطيبُ من أحسنِ طيبه، واللهُ جميلٌ يحبُّ الجمال.. ويحبُّ أن يرى أثرَ نعمته على عبده، لا سيما إذا وقفَ بين يديه.. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]..
السبب الثالث: الاستعداد المبكر للصلاة.. فالتبكير دليلٌ عمليٌ على محبَّةِ الصلاةِ وتعظِيمِ قدرها، وتعلُّقِ القلبِ بها.. والمبكرُ لا يزالُ في صلاةٍ ما انتظَرَ الصلاة؛ تُصلِّي عليه ملائكةُ الرحمن، وتدعُو له بالمغفِرَة والرحمةِ والرضوان..
والسبب الرابع: الاهتمامُ بتحسين الصلاة، يقول أهلُ العلم: "إن سببَ حُضورِ القلبِ في العبادةِ هو الهمُّ والاهتمام؛ فمتى أهمَّكَ أمرٌ حضرَ قلبُكَ فيه".. في الحديث الصحيح، قال النبي ﷺ: «إذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاةَ مودع»؛ وفي الصحيح أنّ الرسول ﷺ قال: «اذكُر الموت في صلاتك، وصلِّ صلاة رجل لا يظنُّ انهُ سيصلي صلاةً غيرها»..
أحبتي الكرام: لقد كان حُبُّ النبيِّ الكريمِ ﷺ للصلاة ظاهرٌ ومتواترٌ، فقد صحَّ عنهُ عليه الصلاةُ والسلام أنهُ قال: «أرِحنا بها يا بلال!» وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة».. ووالله ما قالَ ﷺ هذا الكلامَ العجيبَ إلا حينَ وجَدَ في الصلاةِ ما تَقرُّ بهِ عينهُ، وينشرِحُ بهِ صدرهُ، ويأنسُ بهِ قلبهُ، وتفرحُ به روحهُ، ولذلك كان ﷺ يُطيلُ صلاتهُ حتى تتفطَّرَ قدماه.. وكثيرٌ من السلف كانت الطيور والعصافير تحطُّ على رؤوسهم من طول قيامهم في الصلاة.. ووالله يا عباد الله: لو تمكَّنَ حُبُّ الصلاةِ من قلوبنا فلن نجِدَ حلاوةً ألذَّ منها، ولا أُنساً أطيب منها، واسألوا عن ذلك المُوفَّقون، أهلُ التُّقَى والهُدَى، المُعلَّقةِ قلوبُهم بالمساجِدِ، المُبكِّرون إلى الصلوات، المتنافُسون على الصف الأول، المُدرِكُون لتكبيرةِ الإحرام مع الإمام.. والخلاصة يا عباد الله: أن مَنْ خَشَعَ فِي صَلَاتِهِ فستصلحُ أحواله، وتستقيمُ أموره، وَمَنْ قَرَأَ سِيَرَ الْخَاشِعِينَ، وَرَاقَبَ أَحْوَالَهُمْ وَجَدَ ذَلِكَ واضحاً فِيهِمْ.. ومن لم يخشع في صلاته: حُرم من ذلك كلِّه، وثقُلَ عليه أدائها، حتى يتكاسل ويصعب عليه القيام لها.. وعندها فيخشى عليه أن يكون ممن قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا لَّذَّةَ المناجاة، وَحَلَاوَةَ وأنس الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ..
يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفرقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل على محمد.....