تأهبوا له.. (الشتاء)

سامي بن محمد العمر
1447/06/27 - 2025/12/18 21:20PM

أما بعد:

عدوٌ فاضحٌ، سريعٌ دخولُه، بطيءٌ خروجُه.

عدوٌ قاتلٌ، يفتِكُ بالضُّعفاء، وذوي الحاجاتِ والفقراء.

لا يكادُ يسلَمُ أحدٌ فيه من حمى أو مرض؛ فتأهَّبُوا له.

تأهَّبُوا لذاكم الذي قال عنه عُمرُ رضي الله عنه: "إن الشتاءُ قد حضرَ وهو عدوٌ، فتأهَّبُوا له أُهبَتَه من الصوفِ والخفافِ والجوارِبِ، واتَّخِذُوا الصوفَ شِعارًا ودِثارًا، فإن البردَ عدوٌ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه"([1]).

وهو فاضحٌ؛ لأنه لا يكادُ يصبِرُ فيه الفقيرُ على ما يجدُ من قسوته، فيضطرُّ لإظهارِ أمرِه للناسِ ويفتضح.

الشتاءُ وبردُه: مخلوقٌ من مخلوقاتِ الله، يتكرَّرُ علينا كلَّ عامٍ، يحمِلُ معه جُملةً من العِبر والمواعِظِ والأحكامِ.

في الشتاء: نُجدِّدُ الإيمانَ بالله، وقدرتِه وحكمتِه، وما أعدَّه للطائعين من خيراتِه وجنَّاتِه، وما توعَّدَ به العاصين من أهوالِه ونيرانِه، فالناظرُ - بعد نزولِ الأمطار - إلى المروجِ الخضراء وشلَّال الماء، وجريان الأودية وجمال الأجواء، ليتذكَّرُ جنَّةَ الله؛ والتي ليس فيها مما في الدنيا إلا الأسماء.

والذي يقرُصُه بردُ الشتاء، يتذكَّرُ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشتكَت النارُ إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ أكلَ بعضِي بعضًا، فأذِنَ لها بنفسَين، نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير))([2]).

وفي الشتاء: ينزِلُ المطرُ بخيراتِه وبركاتِه، ماءً طهورًا كما قال الله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، فيبُلُّ الأرضَ ويُصيبُ الثيابَ، ونستحضر مع ذلك علمَنا بطُهوريَّته، فلا نُوسوِسُ ولا نرتاب فيما يُصيبُنا من وحلِ الأرض، أو يقطُرُ علينا من جِدارٍ أو مِيزابٍ.

ويشتدُّ المطر، ويكثُرُ الوحل، ويشُقُّ على الناس الوصولُ للمساجِد، وقضاءِ حوائِجِهم، ويلزَمُون بيوتَهم، فيُباحُ لهم عند ذلك الصلاةُ في رحالِهم، كما قال ابن عُمر رضي الله عنهما: "كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يأمرُ المؤذِّن إذا كانت ليلةً بارِدةً ذات مطر، يقولُ: ألا صلُّوا في الرحالِ" متفق عليه([3]).

ويُباحُ الجمعُ في المساجِد بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، عند وجود المشقَّة كما سبق.

وفي الشتاء: يعظُمُ أجرُ المحافِظين على إسباغ الوضوء، وتعاهُد أعضائِه بالماء دون سرعة مخلة، ففي الحديث الصحيح: ((ألا أدُلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟)) وذكرَ منها: ((إسباغَ الوضوء على المكاره))([4]).

وفي الشتاء: يحتاجُ البعضُ إلى التيمُّم لعدم الماء أو عدم القُدرة على استعماله، فيضرِبُ الصعيدَ مرَّةً واحدةً يمسحُ بها وجهَه وظاهرَ كفَّيه.

وفي الشتاء: يلبسُ الناسُ الخفاف والجوارب؛ فيُباحُ لهم المسحُ عليها، متى ما لبِسَها المرءُ على طهارَة وكانت ساترةً للقدمَين، وطاهرةً في نفسِها، ومُباحَة، وفي المدَّة المحدَّدة: يومٌ وليلةٌ للمُقيم، وثلاثةُ أيامٍ بليالِيهن للمُسافِر، تبتدِئُ المدة من أولِ مسحةٍ بعد الحدَث، ويمسحُ المرءُ أعلى الخُفِّ دون أسفله، ويجتنِبُ المسحَ على الشُرَّاب الذي لا يستُرُ الكعبَين، ويُعفَى عن الشُرَّاب الذي فيه شُقوقٌ يسيرة.

وفي الشتاء: يلبسُ الناسُ القُفَّازات ويُصلُّون بها، ولا بأسَ بذلك، ويلبسون أغطيةً على رُؤوسِهم ولكن لا يمسحون عليها، إلا إذا كان يشقُّ عليهم نزعُها، والتلثم في الصلاة مكروه إلا عند الحاجة؛ فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهَى أن يُغطِّي الرجلُ فاهُ في الصلاة.

بارك الله لي ولكم ...

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، والصلاة والسلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين، بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنِه وسراجًا مُنيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومن اهتَدَى بهديه واتَّبَع ملَّته، ونصرَ سُنَّته إلى يوم الدين؛ أما بعد:

وفي الشتاء: يحرِصُ الكثيرون على التدفئة بإشعال النار، وقد جاءَت الشريعةُ آمِرةً بأخذِ الحيطَة والحذَر منها، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تتُركوا النارَ في بيوتِكم حين تنامُون))([5])، وحين حُدِّثَ أنَّ بيتًا احترَقَ في المدينة من الليل، قال: ((إن هذه النار إنما هي عدوٌّ لكم، فإذا نمتُم فأطفِئُوها عنكم)) ([6]) متفقٌ عليهما.

وفي الشتاء: يسهُلُ الصيامُ والقيامُ، وتلك هي الغنيمةُ البارِدة كما ورَدَ في بعضُ الآثار.

وفي الشتاء: يتمثَّلُ المؤمنُ سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، عند نزول الأمطار، وهُبوب الرياح، ورُؤية البرق، وسماع صوت الرَّعد والصواعِق، فينسِبُ الفضلَ لربِّه، ويسألُ الله نفعَ المطر وبركتَه، ويحسِرُ عن بدنِه فيُصيبُه من المطر، ولا يسُبُّ ريحًا، بل يسألُ الله خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَت به، ويعُوذُ بالله من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسِلَت به.

وفي الشتاء يفزعُ أهلُ الخير والعطاء، يتلمَّسون حاجات إخوانهم الفُقراء، وجيرانهم الأعفاء، وأقاربهم الضعفاء الذين قال الله تعالى عن أمثالهم ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 273-274]

اللهم اهدنا فيمن هديت...



([1]) انظر: لطائف المعارف (ص564).
([2]) البخاري (3260) ومسلم (185).
([3]) البخاري (666) ومسلم (697).
([4]) مسلم (251).
([5]) البخاري (6293) ومسلم (2015).
([6]) البخاري (6294) ومسلم (2016).

المرفقات

1766082011_تأهبوا له (الشتاء).docx

1766082021_تأهبوا له.pdf

المشاهدات 676 | التعليقات 1

جزاك الله خير الجزاء