[وكن من الساجدين]
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾.
أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ..
مَا وُجِدَتِ الأَرْوَاحُ إِلَّا لِتُعَظِّمَ رَبَّهَا، وَلَا رُفِعَتِ الْجِبَاهُ إِلَّا لِتَسْجُدَ لَهُ تَعَالَى، فَالسُّجُودُ بَابُ الْفَرَجِ، وَمِفْتَاحُ الْقُرْبِ، وَعَلَامَةُ الصَّلَاحِ، وَطَرِيقُ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَين.
يَقُولُ الصَّحَابِيُّ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ نَهَارِي، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ آوَيْتُ إِلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَبِتُّ عِنْدَهُ، فَلَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ رَبِّي، حَتَّى تَغْلِبَنِي عَيْنِي فَأَنَامَ، فَقَالَ ﷺ يَوْمًا: يَا رَبِيعَةُ؟ سَلْنِي فَأُعْطِيَكَ. فَقُلْتُ أَنْظِرْنِي حَتَّى أَنْظُرَ، وَتَذَكَّرْتُ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِنَ النَّارِ وَيُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ فَانِيَةٌ، وَأَنْتَ مِنَ اللهِ بِالْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ لِي، قَالَ: إِنِّي فَاعِلٌ، فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ". رواه الطبراني وأصله عند مسلم
وَعَبَّرَ ﷺ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ، لِشَرَفِ السُّجُودِ وَعَظِيمِ رُكْنِيَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ في كِتَابِهِ الصَّلَاةَ سُجُودًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ..
السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ سِرُّهَا وَرُوحُهَا، وَهُوَ رُكْنُهَا الأَعْظَمُ، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، حِينَ يَنْطَرِحُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَذِلُّ لَهُ سُبْحَانَهُ.
وَلِمَكَانَةِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ تَكَرَّرَ فِي الرَّكْعَةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ رُكْنٌ سِوَاهُ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، لِيَتَحَقَّقَ مِنَ الْعَبْدِ كَمَالُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ، وَذٰلِكَ حِينَ يُمَكِّنُ الْوَجْهَ، أَعَزَّ عُضْوٍ فِي الإِنْسَانِ وَأَرْفَعَهُ، مِنْ أَدْنَى الأَشْيَاءِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَالأَرْضُ الْمَدُوسَةُ بِالأَرْجُلِ وَالنِّعَالِ.
وَالسُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ يَشْتَرِكُ مَعَ الْمُصَلِّي فِيهَا كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ شَيْءٍ، فَالْكُلُّ يَسْجُدُ لِلَّهِ وَيَخْضَعُ، فَلَا مَجَالَ لِلْخُرُوجِ عَنْ سُلْطَانِ اللهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، فَقَدْ خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَسَجَدَ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟" قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَٰلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ﴾. متفق عليه
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ.
وَعَنْ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ فِي السَّمَاءِ وَخُضُوعِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، يُخْبِرُنَا ﷺ فَيَقُولُ: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، -أَيْ: صَوَّتَتْ مِنْ ثِقَلِ مَا عَلَيْهَا مِنْ ازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ-، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" رواه الترمذي وأحمد
وَالْمُسْلِمُ يَنْأَى بِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَكَبَّرَ عَنِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ وَالسُّجُودِ لَهُ، كَمَا حَصَلَ مِنْ إِبْلِيسَ الرَّجِيمِ، قَالَ ﷺ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلِي! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" متفق عليه
عِبَادَ اللَّهِ..
السُّجُودُ شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ، وَقُرْبَةٌ وَتَكْرِيمٌ، كَيْفَ وَقَدْ سَجَدَ أَشْرَفُ الْبَشَرِ مُحَمَّدٌ ﷺ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا يَقِيهِ، يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، "فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ" متفق عليه
وَكَانَ ﷺ يَمُرُّ بِآيَاتِ السُّجُودِ وَيَخِرُّ سَاجِدًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى إِنَّهُ قَرَأَ آيَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِيهَا أَمْرٌ بِالسُّجُودِ، فَنَزَلَ ﷺ وَسَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا صَحْبُهُ الْكِرَامُ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ بِأَنَّ عَلَامَةَ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ، ﴿مُّحَمَّدࣱ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَاۤءُ بَیۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعࣰا سُجَّدࣰا یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۖ سِیمَاهُمۡ فِی وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ﴾
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْرِفُ رَسُولُنَا ﷺ أُمَّتَهُ بِبَيَاضِ وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ، قَالَ ﷺ: "فَإِنَّ أُمَّتِي يَوْمَئِذٍ غُرٌّ مِنَ السُّجُودِ، مُحَجَّلُونَ مِنَ الْوُضُوءِ" رواه أحمد والترمذي
وَأَعْضَاءُ الْإِنْسَانِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْحَنِيَ وَتَسْجُدَ وَتَذِلَّ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَاللهُ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلسُّجُودِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَخْضَعَ لَهُ الْجِبَاهُ وَالْأَيْدِي وَالْأَقْدَامُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾
أَيُّهَا الْكِرَامُ..
وَمَشْهَدُ السُّجُودِ مَشْهَدٌ جَلِيلٌ، يَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى جَمِيعُ الْبَدَنِ، فَيَسْجُدُ الْوَجْهُ، وَتَسْجُدُ الْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ لِلرَّبِّ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ قَدْ سَجَدَ وَخَضَعَ وَاسْتَكَانَ، قَالَ ﷺ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ" متفق عليه
وَالْمُتَأَمِّلُ فِي حَالِ السَّاجِدِ لِلَّهِ وَفِي هَيْئَةِ أَعْضَائِهِ يَرَاهَا قَدْ خَضَعَتْ لِلَّهِ وَسَجَدَتْ، وَتَوَجَّهَتْ أَطْرَافُ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، فَسَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى، وَاتَّجَهَتْ بِكَيْفِيَّةٍ الْمُتَذَلِّلِ لِرَبِّهِ، الْمُعَظِّمِ لِخَالِقِهِ، الْمُبَجِّلِ لِسَيِّدِهِ.
يَسْجُدُ الْمُصَلِّي بِهَيْئَةٍ مُعْتَدِلَةٍ قَدْ أَرْشَدَنَا إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَدْ جَافَى عَنْ جَنْبَيْهِ، وَرَفَعَ صَدْرَهُ عَنِ الْأَرْضِ، غَيْرَ مُفْتَرِشٍ الذِّرَاعَيْنِ، وَنُهِينَا أَنْ نُشَابِهَ الْحَيَوَانَ في هَيْئَتِهِ، قَالَ ﷺ: "اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ" متفق عليه
وما على المُصلِّي من شَعَرٍ وثِيابٍ له نصيبٌ من السجودِ والخضوعِ، فنهى ﷺ أن يجمعَ المُصلِّي ثيابَه ويضمَّها، أو يُشمِّرَ كُمَّه، وأن يربطَ شعرَه ويجمعَه؛ حتى يقعَ شعرُه وثيابُه على الأرضِ، ويتحقَّقَ كمالُ السجودِ للهِ تعالى.
وَإِنَّ سُجُودَ القَلْبِ وَتَذَلُّلَهُ لِرَبِّهِ أَعْظَمُ السُّجودِ؛ فَلَا يَلِيقُ بِالسَّاجِدِ أَنْ يَبْقَى فِي نَفْسِهِ أَثَرٌ لِلكِبْرِ وَالِاسْتِعْلاءِ، بَلْ يَسقُطُ مَعَ تَعْفِيرِ الجَبِينِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلا.
ويَكمُلُ السجودُ بذِكرِه ودعائِه، عند قولِه: «سُبحانَ ربِّي الأعلى»، مُثبِتًا لِلَّهِ عُلوَّه وعظمتَه، عارفًا قَدرَ نفسِه الذليلةِ، المحتاجةِ للصَّمَدِ سبحانه.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي السُّجُودِ فَقَدْ قَالَ ﷺ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم، فَحِينَ يَطْلُبُ رَبَّهُ حَاجَاتِهِ، وَيَرْفَعُ دَعَوَاتِهِ، فَقَدْ بَلَغَ أَقْرَبَ أَبْوَابِ الْإِجَابَةِ، وَوَصَلَ لِأَكْمَلِ حَالَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ سُبْحَانَهُ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ، وَلَا يَرُدُّ لَهُ طَلَبَهُ، وَحَرِيٌّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ أَنْ يَطْلُبَ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ الْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ، وَيَسْأَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالسِّتْرَ، وَمِمَّا كَانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُجُودِهِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ". رواه مسلم
وَعِنْدَ تَتَابُعِ الْهُمُومِ، وَتَزَاحُمِ الْغُمُومِ؛ يَضِيقُ الصَّدْرُ، وَتَثْقُلُ النَّفْسُ، وَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَى أَنْ يُنَفِّسَ عَنْ مَشَاعِرِهِ، وَيَبُثَّ شَكْوَاهُ، وَيُخَفِّفَ آلامَهُ، وَلَا مَلْجَأَ لِلْإِنْسَانِ فِي هٰذِهِ اللَّحَظَاتِ إِلَّا بَابَ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ؛ فَيَنْطَرِحُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَشْكُو ضَعْفَهُ، وَيَرْفَعُ حَاجَاتِه، فَلْيُبْشِرْ عِنْدَئِذٍ بِنُزُولِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَزَوَالِ الْهَمِّ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ إِلَى كَثْرَةِ السُّجُودِ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ وَآذَوْهُ، فَضَاقَ صَدْرُهُ وَاشْتَدَّ حُزْنُهُ، فَقَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾.
أَقُولُ قَوْلِي هٰذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ سَعَادَةَ الْمَرْءِ وَاطْمِئْنَانَ قَلْبِهِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا بِلَذَّةِ الْقُرْبِ مِنَ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.
وَالسُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ أَفْضَلِ الحَسَنَاتِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، قَالَ ﷺ عَنْ فَضْلِ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ سَيِّئَةً" رواه مسلم
وَلَقَدْ حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مَوَاضِعَ السُّجُودِ، فحِينَ يَجُوزُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَتَخْطُفُ الكَلالِيبُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، قَالَ ﷺ:" وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبِقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ: أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ" متفق عليه
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا عَامِرَةً بِذِكْرِكَ، وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِشُكْرِكَ، وَأَبْدَانَنَا خَاضِعَةً لِطَاعَتِكَ، وَارْزُقْنَا لَذَّةَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
المرفقات
1766140473_وكن من الساجدين - للجوال.pdf