وينزل الغيث (مشكولة)
صالح عبد الرحمن
خطبة وينزل الغيث 1447/06/28هـ (مشكولة)
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ ذِي القُدْرَةِ القَاهِرَةِ، وَالحِكْمَةِ البَاهِرَةِ، وَالآلَاءِ المُتَظَاهِرَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَتَعَالَتْ عَظَمَتُهُ، وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَهُ المَحَامِدُ كُلُّهَا، وَمِنْهُ النِّعَمُ كُلُّهَا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الأُمُورِ سِرُّهَا وَعَلَنُهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فَهِيَ وَصِيَّتُةُ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَبِهَا تَكُونُ النَّجَاةُ يَومَ الدِّينِ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) نِعَمٌ وَافِرَةٌ، وَخَيْرَاتٌ عَامِرَةٌ، نَتَفَيَّؤُهَا مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، السَّمَاءُ تُمْطِرُ، وَالشَّجَرُ يُثْمِرُ، وَالأَرْضُ تَخْضَرُّ، وَالأَمْنُ مَدِيدٌ، وَالعَيْشُ رَغِيدٌ، حِينَما يَأْتِي المَطَرُ يَسْتَبْشِرُ النَّاسُ بِمَقْدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ زِينَةٌ لِلأَرْضِ وَغَوْثٌ لِلْعِبَادِ وَسُقْيَا لِلْبَهَائِمِ وَالأَشْجَارِ، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا:
﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ﴾.
فَوَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا سُقِينَا، وَلَا تَنَعَّمْنَا بِمَا أُوتِينَا، لَوْلَا لُطْفُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ لَمَا أُغِثْنَا، لَوْلَا عَفْوُ اللهِ لَأَجْدَبْنَا:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾،
﴿أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾.
تَرَى الفَرَحَ فِي وُجُوهِ النَّاسِ عِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ، تَرَى البِشْرَ يَعْلُو مُحَيَّاهُمْ، وَمَنْ ذَا الَّذِي لَا يَفْرَحُ بِالمَطَرِ، حِينَ يَنْزِلُ مِنَ اللهِ وَلَا يُعْقِبُهُ عَذَابٌ وَلَا غَرَقٌ؟! الغَيْثُ الَّذِي لَوْ شَاءَ اللهُ لَأَصْبَحَ عَذَابًا، وَالمَطَرُ الَّذِي لَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُ غَرَقًا. كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَتَأَمَّلُ فِي المَطَرِ وَنُزُولِهِ، وَيَغْفُلُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي قُدْرَةِ اللهِ وَمَلَكُوتِهِ، وَالمُؤْمِنُ كُلُّ شَيْءٍ يُذَكِّرُهُ بِعَظَمَةِ الجَلِيلِ ـ سُبْحَانَهُ ـ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ أَعَاجِيبِ المَطَرِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ مَيْتَةً مُجْدِبَةً، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ فَإِذَا بِهَا تَحْيَا وَتُزْهِرُ، وَذَاكَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لِلْعَبْدِ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الخَلْقِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَعَوْدَتِهِمْ بَعْدَ رَحِيلِهِمْ:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
فَشَبَّهَ إِحْيَاءَ الأَرْضِ بِإِحْيَاءِ العِبَادِ، وَإِخْرَاجَ الزُّرُوعِ بِإِخْرَاجِ المَوْتَى مِنَ القُبُورِ، فَمَا أَعْظَمَ اللهَ.
مَعْاشَرَ الكِرَامِ: وَعِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَعَاهَدَهَا شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، فَقَوْلُ: «مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ» سُنَّةٌ يَنْبَغِي قَوْلُهَا عِنْدَ المَطَرِ، وَالقَلْبُ حِينَئِذٍ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ المَطَرَ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَمَتَى مَا شَاءَ أَمْسَكَهُ، اخْتَارَ لِنُزُولِهِ بَلَدًا دُونَ آخَرَ، وَوَقْتًا دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ، وَلَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ.
وَالمُؤْمِنُ عِنْدَ نُزُولِ الأَمْطَارِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا»، وَتِلْكَ سُنَّةٌ يَنْبَغِي قَوْلُهَا حِينَ تَهْطُلُ الأَمْطَارُ، لِأَنَّ المَطَرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا فَرُبَّمَا كَانَ عَذَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَيِّبًا أَيْ هَنِيئًا فَسَيَكُونُ شَقَاءً وَعَذَابًا.
وَعِنْدَ الرَّعْدِ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الحَدِيثَ، وَقَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ الأَرْضِ».
أَمَّا المُصْطَفَى ﷺ فَقَدْ كَانَ إِذَا نَزَلَ المَطَرُ حَسَرَ ثَوْبَهُ لِيَنَالَهُ المَطَرُ، وَقَالَ: «إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ». وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: «أَخْرِجْ فِرَاشِي وَرَحْلِي…» فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ فَأُحِبُّ أَنْ تُصِيبَ البَرَكَةُ فِرَاشِي وَرَحْلِي.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ كَانَ يَكْشِفُ ظَهْرَهُ لِلْمَطَرِ، وَكَانَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ إِذَا مَطَرَتِ السَّمَاءُ مَسَحَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَجَسَدَهُ، وَقَالَ: «بَرَكَةٌ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ تَمَسَّهَا يَدٌ وَلَا سِقَاءٌ». فَاللَّهُمَّ أَنْلِنَا بَرَكَاتِكَ، وَاسْقِنَا غَيْثَكَ، وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ.
الخطبة الثانية:
الحمْدُ للَّهِ وَكَفَى، وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذينَ اصْطَفَى، وَبَعْدُ؛ فَاتَّقُوْا اللهَ -رَحِمَكُمِ اللهُ- حَقَّ تَّقْوَاهُ؛ وَقَدِّرُوُا هَذِهِ النِّعَمَ حَقَ قَدْرِهَا.
إذَا كَانَ المَطَرُ فِي الأَصْلِ رَحْمَةً؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَذَابًا، وَالقُلُوبُ الحَيَّةُ حِينَ تَرَى الرِّيَاحَ وَتَخَيُّلَ السَّمَاءِ فَقَدْ تَوْجَلُ قُلُوبُهُمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ «كَانَ إِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، حَتَّى إِذَا أُمْطِرَ سُرِّيَ عَنْهُ»، وَهَذَا وَهُوَ الرَّسُولُ، وَهُمْ الصَّحَابَةُ، خَافُوا نَذِيرًا وَآيَةً، فَاللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَيْرَ مَا سُقِينَا.
المَطَرُ يَا مُبَارَكُونَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ؛ يُدَبِّرُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا يَعْصِي لِخَالِقِهِ أَمْرًا، المَطَرُ قَطَرَاتٌ مِنْ مَاءٍ إِذَا زَادَتْ أَغْرَقَتْ وَجَرَفَتْ، وَفَتَكَتْ وَدَمَّرَتْ، وَهَذَا صُنْعُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ فِي المَاءِ الَّذِي هُوَ أَيْسَرُ الأَشْيَاءِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؟!
كَمْ رَأَى النَّاسُ مِنْ فَيْضَانَاتٍ مُدَمِّرَةٍ، وَأَعَاصِيرَ مُهْلِكَةٍ، وَأَمْطَارٍ مُغْرِقَةٍ، تَقِفُ أَمَامَهَا القُوَى عَاجِزَةً، وَلَا يَمْلِكُ النَّاسُ وَهُمْ يَرَوْنَ سَيْلَهَا وَسَيْرَهَا، وَعِظَمَهَا وَأَثَرَهَا، إِلَّا أَنْ يُذْعِنُوا لِلَّهِ وَيَنْسِبُوا لَهُ القُدْرَةَ.
فَمَا زَالَ النَّاسُ فِي هَذِهِ البِلَادِ فِي أَذْهَانِهِمْ بَقَايَا ذِكْرَيَاتٍ لِسُيُولٍ غَمَرَتْ وَخَلَّفَتْ ضَحَايَا، لِأَجْلِ كُلِّ ذَا، فَحِينَ تَأْتِي الأَمْطَارُ سَلُوا المَوْلَى أَنْ تَكُونَ رَحْمَةً لَا عَذَابًا.
وَأَصْحَابُ القُلُوبِ المُتَعَلِّقَةِ بِرَبِّهَا لَا تَأْمَنُ عُقُوبَةً، بَلْ تَتَغَيَّرُ مَعَ تَخَيُّلِ السَّمَاءِ، وَتَتَعَلَّقُ بِذِي العِزَّةِ وَالكِبْرِيَاءِ، وَتَفْرَحُ بِالمَطَرِ وَلَا تَجْعَلُهُ سَبَبَ عِصْيَانٍ، لَا فِي البَرَارِي وَلَا فِي الحَوَاضِرِ.
مَعْاشَرَ الكِرَامِ: وَمَعَ نُزُولِ الأَمْطَارِ وَخُرُوجِ الكَثِيرِ لِلْبَرَارِي وَمَوَاقِعِ الأَمْطَارِ؛ فَإِنَّ مِمَّا يُؤَكَّدُ عَلَيْهِ: الرِّفْقَ فِي القِيَادَةِ، وَ«مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ»، وَشُكْرَ النِّعْمَةِ، وَعَدَمِ المُجَاهَرَةِ بِالمَعْصِيَةِ، ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، آيَةٌ يُذَكَّرُ بِهَا بَعْضُ مَنْ يَجْعَلُونَ كُثْبَانَ الرِّمَالِ مَيْدَانًا لِلَهْوِهِمْ بِسَيَّارَاتِهِمْ، أَوْ يُغَامِرُونَ وَيُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِقُرْبِ مَسَايِلِ المِيَاهِ وَالوُدْيَانِ.
فَالمَطَرُ نِعْمَةٌ تَحْتَاجُ الشُّكْرَ لِتَدُومَ، وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ حُرِمُوا المَطَرَ بِذَنْبِ أَحَدِهِمْ، فَلَا نَكُنْ مِمَّنْ نَتَسَبَّبُ فِي سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْنَا، وَسَبَبًا لِحَجْبِ أَفْضَالِهِ عَنَّا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ: «أَنَّ البَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ حِينَ الجَدْبِ».
اللَّهُمَّ اجْعَلِ الغَيْثَ الَّذِي سَقَيْتَنَا سُقْيَا رَحْمَةٍ وخيرٍ على بلادنا.